حب الاستقلال وبناء الشخصية
من الرغبات الطبيعية التي تبدأ بالظهور في أعماق الفتى لدى بلوغه، وتحفّزه على العمل والنشاط، الرغبة في تحقيق الاستقلال الذاتي وبناء الشخصية. فالطفل لا يجد نفسه جديراً بأن يكون مستقلاً في عمله وقراراته وإرادته، وذلك بسبب ضعف جسمه وعدم نضوج فكره، فهو لم يزل طفلاً بحاجة إلى رعاية أبويه واهتمامهما. ومع حلول مرحلة البلوغ تنتهي فترة الطفولة، ويبدأ الجسم بالنمو الشامل والسريع، وتبرز فيه تدريجياً صفات الرجل الكامل، وإلى جانب التغييرات الجسمانية هناك تغييرات تطرأ على نفسية الفتى، حيث تُولد فيه عواطف وأحاسيس جديدة، منها حسّ الاستقلال وبناء الشخصية. - ميل الشاب للحرّية: "تبرز رغبة الشاب في إثبات شخصيته الاجتماعية في حالات عديدة، لا تخرج عن إطار نشاط ذاتي صِرْف. فيسعى إلى إبداء رغبته في الانفصال عن عالم الطفولة لتكون له حياة حرّة ومستقلة". "إذا لم يعد الفتى بحاجة إلى مَن يرعاه ويشرف عليه، فهو المسؤول عن كل حركاته وتصرفاته أمام المجتمع، وهذا ما تؤكده القوانين الجزائية والحقوقية. فالفتى لم يعد طفلاً صغيراً، وينبغي على أبويه أن يمنحاه حرّيته شيئاً فشيئاً، لأنه شاء أبواه أم أبيا يرغب في أن تكون له حياة تختلف عن حياة الطفولة التي هجرها بكل ما له صلة بها من حركات وتصرفات وعادات صبيانية. إنَّه خارج من نطاق الطفولة الضيّق إلى عالم الرجولة والكمال الواسع، وما الرغبة في الاستقلال إلّا حلقة في السلسلة التكاملية لحياة الإنسان". - قبوض عضويته في المجتمع: إنَّ إرضاء رغبة الفتى في تحقيق الاستقلال وبناء الشخصية إرضاءً صحيحاً أمر واجب، إذ يجب الاهتمام بهاتين الرغبتين الفطريتين، لأن الفتى وينتيجة البلوغ يجد نفسه أمام مسؤوليتين كبيرتين، مؤاخذة الناس له على تصرفاته الشخصية وقبول عضويته في المجتمع. ولكي يحصل الفتى على استقلاليته عليه أن يهتم بمسؤوليته الشخصية، أما إذا أراد أن يكون عضواً في مجتمعه، فعليه أن يبني شخصيته. - استحقاق الثواب والعقاب: إنَّ الفتى مسؤول عن سلوكه وتصرفاته كما تنصّ الأحكام الإسلامية والقوانين الوضعية، فهو مستقلّ ومخيّر في أداء خير الأعمال والتصرفات أو شرّها، فهو إذن ينطبق عليه قانون الثواب والعقاب. ولابدّ للمرء من أن يكون مستقلاً في شخصيته وإرادته حتى يُؤاخذ على سلوكه وأعماله حسب الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية. وتشكّل مرحلة الشباب نهاية فترة الطفولة وبداية حياة اجتماعية كاملة، فالفتى البالغ يخرج من محيط الأسرة الضيق إلى محيط المجتمع الواسع، ليصبح عضواً في المجتمع يتحمّل ما يتحمّله الآخرون من مسؤوليات. ومن رغب في أن يكون عضواً مؤثراً في المجتمع، عليه أن يبني لنفسه شخصية يمكنها أن تتآلف مع المجتمع، وتتّصف بصفات العضوية فيه. وهذه الصفات التي يختارها الفرد ليتطبّع بها ويستطيع من خلالها أن يذوب في المجتمع، يصطلح عليها في علم النفس بالصفات الشخصية. وباختصار فإن ضرورة تحقيق المسؤولية الشخصية والعضوية الاجتماعية تستدعي من الفتى العمل على تحقيق رغبته في الاستقلال وبناء الشخصية، وإرضاء هاتين الرغبتين الفطريتين بشكل سليم. - جيل الشباب والمشكلة الكبرى: إنَّ موضوع بناء الشخصية واختيار ما يلزم من صفات للتوافق مع المجتمع، يشكل إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها جيل الشباب. فالكثير من الفتيان تزلّ أقدامهم عن الطريق السّوي بسبب غرورهم واستبدادهم برأيهم وانعدام المربّين الأكفّاء، فيختارون الذميم من الصفات بدل الحميد منها، وبذا يصبحون عاجزين عن تكييف أنفسهم مع المجتمع. وتنشأ معظم حالات التمرّد والعصيان والإحباط والإخفاق والحرمان والانتحار أحياناً من ضعف شخصية الشباب وسوء تشخيصهم للعوامل التي تساعدهم في تكييف أنفسهم مع المجتمع. - التوافق مع المحيط: "كلما ضعفت علاقة الشاب بمحيط أسرته وتقلّصت، كلما واجه الشاب الذي يشعر بعنفوانه وحرّيته وطاقته وحيويّته مشاكل جديدة". "إنَّ إثبات الشخصية وهو أمر طبيعي لمثل هذا العمر غالباً ما يثير تضادّاً بين الشباب والمحيط الذي يعيش فيه. وقد لاحظ (ماندوس) أن الشباب في الغالب لا يحاولون تكييف أنفسهم مع محيطهم الاجتماعي، وإنما يريدون عكس ذلك". "إن الضوابط الاجتماعية التي يواجهها الشاب بعد خروجه من محيط أسرته إلى محيط المجتمع، تثير فيه الدهشة والحيرة، البعض من الشباب يتملكه الاضطراب الشديد والبعض الآخر يصاب بإحباط نفسي، وقليل من الشباب من يستطيعون أن يكيّفوا أنفسهم مع تلك الضوابط". "ومن هنا تنشأ حالات التمرد والعصيان والفوضوية والفلتان، وتتملك التخيلات والأوهام أحاسيس أصحاب النفوس المريضة والطباع الضعيفة". - حسّ التفوّق والأفضلية: ثمة أسباب عديدة وراء خطأ الشباب في اختيار الصفات الشخصية وانحرافهم عن طريق الفضيلة والصلاح، ومما لاشك فيه أنَّ الحالات النفسية والعصبية التي يعيشها الشاب أثناء فورة البلوغ، هي من جملة هذه الأسباب. ومن الأحاسيس الطبيعية الأخرى التي تبرز في أعماق الشاب، حسّ التفوق والأفضلية. وهذا الحسّ الفطري الذي يبدأ نشاطه مع حلول مرحلة البلوغ يعتبر ثروة عظيمة من ثروات الشباب، إنْ استغلّوها استغلالاً صحيحاً سارت بهم نحو السموّ والكمال، وإنْ أفرطوا في استغلالها تسببت في شقائهم وتعاستهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق